حوار حول مسيرة المعجم التاريخي للغة العربية
في رحاب الجامعة الكاثوليكية في ميلانو
شهد اليوم الثاني من مؤتمر اللغة العربية في الجامعة الكاثوليكية بمدينة ميلانو الإيطالية جلسات علميّة وأدبيّة ثقافيّة متنوّعة شارك فيها عدد من الأدباء والشعراء والنقّاد العرب والمستشرقين من تسع عشرة دولة، وقد خصّص المؤتمر جلسة كاملة للحوار مع الدكتور امحمد صافي المستغانمي الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالشارقة حول مسيرة المعجم التاريخي للغة العربية: المحطّات والتّحديّات.
أجرى معه الحوار البروفسورة ماريا زنولا رئيسة قسم اللسانيات والآداب بالجامعة الكاثوليكية، وانصبّ الحوار من بدايته إلى نهايته حول مسيرة المعجم التاريخي وأهم مراحله والتّحدّيات التي يواجهها العاملون من أجل إخراجه.
تناول الدكتور المستغانمي في مستهلّ حديثه العوامل الضرورية التي تدعو العرب جميعا إلى أن يتكاتفوا ويتآزروا لإخراج هذا المعجم؛ فالأمرُ ليس ضربا من الرّفاهيّة العلميّة يمكن التعاطي معه أو يمكن التغاضي عنه، وإنّما هذا المشروع العظيم ضربة لازب في شكله ومضمونه. هو مشروع مصيري كالقضايا المصيرية الكبرى التي تهمّ الأمم والشعوب؛ فثمّة ضرورات مؤكّدة، وحاجيات ماسّة يلبّيها هذا المشروع.
وعرّج في إجابته عن عدد من أسئلة الأستاذة المُحاورة على تعريف المعجم التاريخي للغة العربيّة مبيّنا أهم الفروق بينه وبين المعاجم اللغوية الأخرى. فمهما كثرت المعاجم لدى العرب، وهي كثيرة بحكم البدايات والبحوث المعجميّة الأولى التي تقدّم فيها علماء العربية وبزّوا فيها أقرانهم من أبناء الأمم الأخرى، قال: على الرغم من كثرة ما تمتلك الأمة العربية من معاجم إلآ أنّها لا تغني – مع كثرتها وجودتها وطول باع أصحابها في اللغة والبيان والتبيين – عن المعجم التاريخي الذي يؤرّخ لجميع ألفاظ اللغة العربية منذ نشأتها الأولى إلى عصرنا الرّاهن؛ إذ يُعنى المعجم بتتبّع اللفظ العربي في أوّل استعمال له، متى وُلد؟ ومن هو المستعمِل الأوّل؟ وفي أيّ سياق ورد؟ وما الدلالة التي كان يحملها في الاستعمال الأوّل؟ وهل تغيّر من ناحية الشكل والصوت والتّهجية؟ وهل طرأ عليه تغيير في البنية الصرفيّة، وهل تحوّلت دلالته من معنى إلى معنى؟ ومتى تمّ ذلك؟ هذه الأسئلة ومثيلاتها لا تجيب عنها القواميس والمعاجم اللغوية العادية، وإنّما يجيب عنها المعجم التاريخي.
ومن ناحية أخرى، يقوم الباحثون في المعجم التاريخي بدراسة تأثيليّة للألفاظ: هل هذا اللفظ العربي أو ذاك المستعمل على لسان هذا الكاتب أو هذا المتكلّم أو ذاك، هل له نظائر ساميّة في اللغات العروبية القديمة؟ هل ثمّة نصوص موثّقة ورد فيها هذا اللفظ أو ذاك؟ وبأي معنى وأيّة دلالة ورد؟ وأسئلة أخرى كثيرة لا يسع المقام لذكرها وتفصيل القول فيها.
…. وفي الوقت نفسه، أشار الدكتور المستغانمي إلى العوامل التي حالت بين العرب وبين إنجاز هذا المشروع الجلل، أولاها: ضخامة العمل؛ فلا ينبغي للذي يؤرّخ للغة العربيّة أن يتخيّر من مصادر الشعر عناوين ويترك عناوين أخرى، ولا يصحّ أن يضع في المدوّنة اللغوية الحاسوبية كتبا تتعلّق بالأدب وعدد من أجناسه التعبيرية، ويُغفل كتب الفلسفة والمنطق والتاريخ والمواد العلمية الأخرى على سبيل المثال، ولا يتأتى إهمال ما جادت به قرائح أبناء العقود الأولى من القرن العشرين، وما تجود به أقلام أهل الصحافة والإعلام والمسرح وأمثالهم من أهل الفنّ في كل حدب وصوب من أقطار العرب في أيامنا هذه.
لا ينبغي هذا الاختيار، ولا يصح هذا الاجتزاء من تراث الأمّة لأنّ المعجم التاريخي يؤرّخ للغة بشكل شمولي، يتابع تاريخ لغة أمّة ممتدّة عبر الزمن في ماضيها السحيق؛ إذ يصعب تحديد متى بدأ الشعراء والخطباء يبدعون بهذه اللغة المعطاء الخصبة المثراء في قرون الجاهليّة القديمة، واللغة من ناحية أخرى، تتناول جميع مناحي الحياة من أدب بفنّيه الشعريّ والنثري، وفلسفة وتاريخ وجغرافيا ورحلات، وعلوم اجتماع، وعلوم شرعيّة متنوعة، وعلوم مختلفة، وصحافة وإعلام وغيرها؛ فلا يليق بالباحث اللغوي الذي يتصدّى لهذا العمل الجادّ أن يؤرّخ للشعراء ويغفل لغة الفقهاء، ولا يليق أن نؤرّخ للغة الأطبّاء ونحللها ونتغافل عن لغة الفلاسفة والمناطقة وأمثالهم.
ثانيا: اللغة العربية ممتدة منبسطة على أرض طويلة مديدة، تنبسط على أرض جزيرة العرب والعراق وبلاد الشام والأردن، ومصر السودان، وبلاد المغرب العربي، والأندلس وبلاد فارس وغيرها؛ فاللغة لغة هؤلاء جميعا، والإقصاء المتعمّد لمنطقة جغرافية من هذه المناطق يُعَدُّ نقصا في مصادر المدوّنة وخَرْما لما يجب أن تحتويه.
من جهة أخرى، أوضح المستغانمي المنهجيّة التي يتّبعها العاملون في المشروع من بدايته إلى نهايته من محرّرين معجميين ومنسّقين ولجنة المراجعة العليا وغيرها من اللجان، مُشيرا إلى التجارب الأوربيّة خصوصا التجربتين الألمانية والفرنسية والأساليب التي اتّبعها لغويّو ومعجميّو هاتين الأمّتين العُظميين في إنجاز المشروع، مُركّزا على أنّ تَتَبُّعَ التّغيّر الدلالي وتطوّر معاني الألفاظ أو انقراضها واندثارها هو لبُّ لباب التأريخ المعجمي.
وفي سؤال مُهمّ وجّهته الدكتورة ماريا عن الجهة الراعية لهذا المشروع الضخم، عرج الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالشارقة على بعض معالم الخطة العلمية للمشروع، والخطة المالية، منوّها بالجهود العظيمة والعناية المنقطعة النظير التي يوليها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة والرّئيس الأعلى للمجمع، حفظه الله، للمشروع؛ فهو الذي وفّقه الله – بما اجتباه وغرز في طبعه من حب العربية والثقافة بشكل عام، وهداه إلى بعث هذا المشروع الذي ظل يرزح سنين عددا بل عقودا عديدة بين التسويف والتكاسل والإهمال والوجل من المغامرة. أضاف: قيّظه الله جل شأنه لخدمة مشروع الأمة فبعثه من سبات، وأحياه من موات، وحرّكه من همود، وأيقظ أهله الغافلين عنه من جمود، وبث فيهم روح الحماسة من جديد، وها هي ذي الرّقاب تشرئب من جديد وتتربّص منتظرة: متى يظهر هذا المعجم العملاق الذي يمثل ذاكرة الأمّة وديوان ألفاظها وسجلّ أشعارها وأخبارها وحامل مخرجات ومنتجات أبنائها وبناتها؟ ألا إنّ ظلام الإهمال والغفلة قد ولّى، وإنّ دياجير التردد والتسويف المماطل قد انقشعت، وها هو ذا صُبح الهمّة العالية، والعزيمة المتوقدة قد أسفرت أنواره على أبناء اللغة العربية وعاشقيها من جديد، ولا أمات الله لغة حاميها سلطانٌ كسلطان.
حول مؤلف المقالة